الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: تاريخ ابن خلدون المسمى بـ «العبر وديوان المبتدأ والخبر في أيام العرب والعجم والبربر ومن عاصرهم من ذوي السلطان الأكبر» (نسخة منقحة)
.الخبر عن شان الجريد واستكمال فتحه وولاية أحمد بن مكي على جزيرة جربة: كان أمر الجريد قد صار إلى الشورى منذ شغلت الدولة بمطالبة زناتة بني عبد الواد وما نالها لذلك من الاضطراب واستبد مشيخة كل بلد بأمره ثم انفرد واحد منهم بالرياسة وكان محمد بن بهلول من مشيخة توزر هو القائم فيها والمستبد بأمرها كما سنذكره ولما نزعت الدولة إلى الاستبداد وأرهف السلطان حده للثوار وعفى على آثار المشيخة بقفصة وعقد لابنه الأمير أبي العباس على قسطيلية ونزل بقفصة فأقام بها ممهدا لإمارته ومرددا بعوثه إلى البلاد اختبارا لما يظهرون من طاعته وزحف حاجبه أبو القاسم بن عتو سنة بالعساكر إلى نفطة ابتلاء لطاعة رؤسائها بني مدافع المعروفين ببني الخلف وكانوا إخوة أربعة استبدوا برياستها في شغل الدولة عنهم فسامهم سوء العذاب ولاذوا منه بجدران الحصون التي ظنوا أنها مانعتهم وتبرأت منهم الرعايا فأدركهم الدهش وسألوا النزول على حكم السلطان فجذبوا إلى مصارعهم وصلبوا على جذوعهم آية للمعتبرين وأفلت السيف عليا صغيرهم لنزوعه إلى العسكر قبل الحادثة فكانت له ذمة واقية من الهالكة فانتظم الأمير أبو العباس بلد نفطة في مملكته وجدد له العقد عليها أبوه وتملك الكثير من نفزاوة.ولما استبيحت نفطة ونفزاوة سمت همته إلى ملك توزر جرثومة الشقاق وعش الخلاف والنفاق وخشى مقدمها محمد بن بهلول عيث حاله فذهب إلى مصانعة قائد الدولة محمد بن الحكيم بذات صدره فتجافى عنه إلى أن كان مهلكهما في سنة واحدة واضطرب أمر توزر وتوائب بنوه وإخوته وقتل بعضهم بعضا وكان أخوه أبو بكر معتقلا بالحضرة فأطلقه السلطان من محبسه بعد أن أخذ عليه المواثيق بالطاعة والجباية ومضى إلى توزر فملكها وطالبه الأمير أبو العباس صاحب قفصة وبلاد قسطيلية بالانقياد الذي عاهد عليه فنازعه ما كان في نفسه من الاستبداد وصارت لذلك شجا معترضا في صدر إمارته فخاطب أباه السلطان أبا بكر وأغراه به فنهض إليه سنة خمس وأربعين والتقى به ففر عنه وانتهى إلى قفصة وصار الخبر إلى أبي بكر ابن بهلول رئيسها يومئذ فأدركه الدهش وانفض من حوله الأولياء وجاهر بطاعة السلطان ولقائه ففر عنه كاتبه وكاتب أبيه المستولي على أمره علي بن محمد المعمودي المعروف الشهرة ولحق ببسكرة في جوار يوسف بن مزني وأغذ السلطان السير إلى توزر فخرج إليه أبو بكر بهلول وألقى إليه يده وخلط نفسه بجملته.ثم ندم على ما فرط من أمره وأحس بالنكير من الدولة وأنذر بالهلكة فلحق بالزاب ونزل على يوسف بن منصور ببسكرة فتلقاه من الترحيب والقرى بما تحدث به الناس ولما استولى السلطان على توزر وانتظمها في أعماله عقد عليها لابنه الأمير أبي العباس وأنزله بها وأمكنه من رمتها ورجع السلطان إلى الحضرة ظافرا عزيزا واتصلت أيام ملكه إلى أن هلك على فراشه كما نذكر واتصلت ممالك الأمير أبي العباس في بلاد الجريد وساور أبو بكر بن بهلول توزر مرارا يفلت في كلها من الهلكة إلى أن مات ببسكرة سنة سبع وأربعين قبيل مهلك الناس كما نذكر وأقام أبو العباس بمحل إمارته ولم يزل يمهد الأحوال ويستنزل الثوار وكان أبو مكي قد امتنع عليه بقابس وكان من خبره أنه لما رجع عبد الملك من تونس مع عبد الواحد بن اللحياني الذي كان حاجبا له وذهب ابن اللحياني إلى المغرب وأقام هو بقابس ثم استراب بمكان أمره مع السلطان حين ذهب ملك آل زيان فأوفد أخاه أحمد بن مكي على السلطان أبي الحسن متنصلا من ذنوبه متذمما بشفاعته منه إلى السلطان أبي بكر فشفع له وأعاده السلطان إلى مكان رياسته واستقام هو على الطاعة ونكب عن سنن العصيان والفتنة.وكان لأحمد بن مكي حظ من المال والأدوات ونفس مشغوفة بالرياسة والشرف وكان يقرض الشعر فكان يجيد ويرسل فيحسن وكان خط كتابته أنيقا ينحو به منحى الخط الشرقي شأن أهل الجريد فيمتع ما شاء فكانت لذلك كله في نفس الأمير أبي العباس صاغية إليه وكان هو مستريبا بالمخالطة لما شاء من آثاره السالفة ولم يزل الأمير أبو العباس يفتل له في الذروة والغارب إلى أن جلبه إلى مجلس السيدة أمه الواحدة أخت مولانا السلطان قافلة من حجها فمسح ما كان بصدره وأحكم له عقد مخالصته واصطنعه لنفسه فحل من إمارته بمكان غبطة واعتزاز وعقد له السلطان على جزيرة جربة واستضافها إلى عمله وأنزل عنها مخلوف بن الكماد من صنائعه كان افتتحها سنة ثمان وثمانين وعقد له السلطان عليها فنزلها أحمد بن مكي واستقل عبد الملك أخوه برياسة قابس فقاما على ذلك وجردا عزائمهما في ولاية أبي العباس صاحب أعمال الجريد فلم يزالوا كذلك إلى أن كان من أمر الجميع ما نذكر إن شاء الله تعالى..الخبر عن مهلك الوزير أبي العباس بن تافراكين: كان السلطان أبو بكر عند نكبة القائد ابن الحكيم استعمل على حجابته شيخ الموحدين أبا محمد بن تافراكين كما ذكرناه وفوض إليه فيما وراء بابه وعقد على الوزارة لأخيه أبي العباس أحمد وكان أبو محمد جليس الباب لمكان الحجابة فرفع إلى الحرب وقود العساكر وإمارة الضاحية أخاه أبا العباس فقام بما دفع إليه من ذلك وكان بنو سليم بعد مهلك حمزة بن عمر نقموا ما كان عليه من الأذعان وسموا إلى الخلاف والعناد فكان من أبناء حمزة في ذلك من الاجلاب على الحضرة ما ذكرناه وكان سحيم بن من أولاد القوس بن حكيم بينه وبينهم غدر وخلاف وعناد وكان السلطان قد ولى على حجابة ابنه الأمير أبي العباس في أعمال الجريد أبا القاسم بن عتو من مشيخة الموحدين وكان يناهض بني تافراكين بزعمه في الشرف وينفس عليهم ما آتاهم الله من الرتبة والحظ فلما ولي أبو محمد الحجابة ملىء منه حسدا وحقدا وداخل فيما زعموا سحيما هذا الغوي في النيل من أبي العباس بن تافراكين صاحب العساكر وشارطه على ذلك بما أداه إليه وتكاتموا أمرهم وخرج أبو العباس بن تافراكين فاتح سنة سبع في العساكر لجباية هوارة فوفد عليه سحيم هذا وقومه وضايقوه في الطلب ثم انتهزوا الفرصة بعض الأيام وأجلبوا عليه فانفض معسكره وكبابه فرسه فقتل وحمل شلوه إلى الحضرة فدفن بها وجاهر سحيم بالخلاف وخرج إلى الرمال فلم يزل كذلك إلى مهلك السلطان كما نذكر ذلك إن شاء الله تعالى.
|